مفهوم الأمن القومي العربي

مفهوم الأمن القومي العربي

درجت الطبيعة البشرية إلى الاستأناس بالطمأنينة حتى تعيش ، واقتضت صروف الحياة توفر الأمن حتى يحسن الإنسان بأن مضاربه آمنة ، ولا شيء يتهددها ، ومع اندفاع عجلة الحياة وانزلاقها في شتى الأوحال والأهوال ، بدت الكيانات الاجتماعية في حاجة حقيقية لاستشراف أنظمة دفاعية تواكب نمط الحياة ، فترتب على ذلك ظهور كيانات سياسية حملت اسم «الدولة» ثم اتسع نطاق الأمن – وإن حمل نفس المفهوم – وغدت كل وحدة سياسية تسعى بكل ما أوتيت للحفاظ على أمنها، إما بدرء خطر المعتدين وصدهم، أو بمنازلتهم وكسب الجولة عليهم ، أو بمهاجمتهم في عقر دارهم حتى تقطع عليهم سبل زعزعة الأمن ، فضلا عن أن بعض الدول قد أثرت توسيع حدودها ؛ لتجعل أجنحة الأمن ترفرف على جنباتها، فتتقي الأخطار، وتحتاط إلى كل ما يوفر لها الأمن والاستقرار.

ومصطلح الأمن القومي معرب عن المصطلح الأوروبي National Security، بعد أن بدأت كلمة القومية Nationalism تأخذ مكانها، وتبدلت الولاءات، من ولاء للسلطة إلى ولاء للدولة، فأصبح الخوف من السلطة تخلفة وخنوعة ، واحترام وتطبيق القانون رقيا وحضارة، فظهرت مصطلحات كثيرة، ترجمت تلك المشاعر القومية. وأول من وضع مفهومة محددة لهذا المصطلح هو الأمریکی ولتر ليمان Walter Lemmen في عام 1943، وجاء في هذا المفهوم «أن الدولة تكون آمنة عندما لا تحتاج إلى التضحية بمصالحها المشروعة في سبيل تجنب الحرب، وأنها قادرة في حالة التحدي على حماية تلك المصالح بشن الحرب «..

وظل قادة الدول وزعماؤها يثرون الساحة السياسية بمصطلح «الأمن القومي»، رامین من ورائه إلى تحميس شعوبهم ، وبث روح الغيرة على الوطن وصون ترابه في نفوسهم ، وانتظام عقد المجتمع في منظومة تجمع الشمل ، وتوحد الكلمة ، وتنبذ الفرقة والشتات ، وتجمع الشعب إلى مجابهة الملمات ؛ ليكونوا يدا واحدة في مواجهة كل الأزمات ؛ ضمانا للتأييد الشعبي الذي يجعل الكاهل معدا ، والساعد ممتدا ، لكل ما من شأنه الرقي والنماء ، مهما كان منبعه ، مدنيا كان أو عسكرية، على حد سواء.

واتسع مفهوم الأمن القومى لدى علماء الاجتماع، وعبروا عنه بأنه «قدرة الدولة على حماية كيانها الداخلى من التهديدات الخارجية، بغض النظر عن نوعية تلك التهديدات»، وبأنه «القدرة على توفير أكبر قدر من الحماية والاستقرار للعمل الوطنى والقومي ، في جميع المجالات : السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأيديولوجية، والعسكرية، والبيئية في الدولة ضد كل أنواع التهديدات، الداخلية والخارجية، سواء كانت إقليمية أو عالمية». وهناك من يعرّف الأمن القومي / الوطني بأنه «مجموعة من الإجراءات التي يتعين على الدولة، أو مجموعة من الدول، أن تتخذها في حدود طاقاتها، للحفاظ على كيانها ومصالحها، في الحاضر والمستقبل، مع مراعاة المتغيرات الدولية”. والأمن القومي في تعريف آخر هو «جملة المبادى والقيم النظرية، والأهداف الوظيفية، والسياسات العملية، المتعلقة بتأمين وجود الدولة، وسلامة أركانها، ومقومات استمرارها واستقرارها، وتلبية احتياجاتها، وضمان قيمها ومصالحها الحيوية، وحمايتها من الأخطار القائمة والمحتملة، داخليا وخارجيا». والأمن القومي هو مفهوم نظري يؤسس الوظائف وسياسات معينة، ويحدد طبيعتها وتوجهاتها، كما أن المبادى النظرية للأمن القومي، وما ينجم عنها من وظائف وسياسات عملية، إنما تصاغ نظريا وتنفذ إجرائيا بالاستناد إلى قيم الدولة، وظروفها، واحتياجاتها، ومصالحها، وأهدافها، وقدراتها، ومن ثم كانت مبادى

الأمن القومي وثوابته هي جوهر السياسة العليا للدولة ومحورها.

والأمن القومي يعني تأمين كيان الدولة بتحقيق الاستقرار، والتنمية، والمشاركة السياسية، وتأمين مصالح الدولة الحيوية، وتهيئة الأوضاع الملائمة للوصول إلى الأهداف القومية. ويعتمد ذلك على مكونات رئيسية، سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وعسكرية، يتفاعل بعضها مع بعض.

وحيث أن الدولة لا تطبق مفهومها للأمن القومي في فراغ، بل في مواجهة الدول الأخرى ومفاهيمها الأمنية أولا، وفي مواجهة وحدات النظام الدولي الأخرى ومبادئها وأهدافها وسياساتها ثانية، فهي تواجه مشکلات شتى، بعضها تكون هي مصدره، وبعضها مصدره الوحدات الدولية الخارجية

ولكن، حتى قبل نهاية الحرب الباردة في بداية تسعينيات القرن الماضي، ظهرت مدرسة نقدية في الدراسات الاستراتيجية، تلفت النظر إلى ضيق مفهوم الأمن القومي التقليدي وتركيزه المفرط في تعريفه التهديد على الناحية العسكرية البحتة والمصدر الخارجي، وتكلم الغالبية في هذه الحالة عن الحروب العرقية، أو محاولات التخريب التي تنبع من الداخل، وكذلك مصادر تهديد غير عسكرية ومجتمعية، مثل مشكلات المرض، وسوء الإدارة المالية، وتكاثر الديون، أو سوء التخطيط عامة، أو ما يسمى حاليا في لغة كثير من المنظمات الدولية «الإدارة السيئة لشؤون البلاد». ويؤدي تراكم هذه المشكلات إلى ظهور ما سمي به الدول الفاشلة»، أو «الدول المنهارة»، و التي تصبح بمقتضاها أية ممارسة السيادة غير ذي معنى على الإطلاق.

وتشهد دول الغرب مناقشات لا تتوقف حول ما إذا كانت الصياغة التي تبلورت ملامحها الأولية بعد نهاية حقبة الحرب الباردة حول مفهوم الأمن القومي، هي صياغة تحقق هدف حماية هذا الأمن وصيانته بالفعل. ويدعو إلى ذلك ظهور أحداث وظواهر توحي وكأن هذه الصياغة ترتد إلى دول الغرب ذاتها، وأنها تتجاهل تحولا جوهرية وأساسية في النظام العالمي، بل إن الغرب يتمسك باستراتيجية خط المواجهة الفاصل بين جبهتين، يقع الغرب على ناحية، بينما يقع «العدو» على الناحية الأخرى.

قد تتباين نظرة الباحثين إلى مفهوم الأمن في المنطقة العربية، وذلك لاختلاف منطلقاتهم وتوجهاتهم. ويمكن أن نلمس ذلك عموما في ثلاثة اتجاهات بارزة، أحدها يستخدم مصطلح «الأمن القومي» مرادفا للأمن الوطني، والثاني يستخدم مصطلح «الأمن الإقليمي» بديلا للأمن القومي. أما الاتجاه الثالث، فإنه يستخدم مصطلح «الأمن القومی» من خلال نظرة قومية شاملة

–  الأمن القومي كمرادف للأمن الوطني

يركز هذا الاتجاه “على الأمن الوطني، فيستخدم مصطلح « الأمن القومي للإشارة إليه، ويبدو هذا واضحا في العديد من الكتابات، خاصة المصرية، وذلك عند التعرض لموضوع الأمن الوطني المصري (ه) فقد كان الكتاب المصريون أسبق من غيرهم من أشقائهم العرب في طرح المشكلات والقضايا المتعلقة بالأمن ومناقشتها، واستخدم بعضهم مصطلحات مثل «الصراع العربي – الإسرائيلي» ليؤكد ذلك.

وقد أخذ أصحاب هذا الاتجاه مصطلح « الأمن القومي» عن الفقه الغربي، الذي يربط هذا المصطلح كونه كيانأ سياسيا وقانونية محدد المعالم، وفاتهم أن الدولة، بوصفها صورة حديثة للمجتمع السياسي، قد ارتكزت في نشأتها على مفهوم الأمة، ولهذا، يشار إليها في الكتابات السياسية تحت عنوان « الدولة القومية

«، تمييزا لها عن الصور السابقة. ومن المعروف أن مفهوم الأمن القومي لم يتبلور إلا في إطار مفهوم الدولة القومية )

ولعل ظهور هذا الاتجاه، يرجع إلى أسباب عديدة، أبرزها: أن نجاح حركة القومية العربية، التي ظهرت في أوائل القرن العشرين، وأخذت شكل الثورة على الحكم العثماني، ثم النضال ضد السيطرة الاستعمارية، تجسد في نشوء مجموعة من الدول العربية المستقلة. ولم يكتب للأمة العربية أن تقيم دولتها الواحدة ونظامها السياسي الواحد، كما أن الانشغال ببناء الدولة الوطنية (القطرية) عقب الاستقلال طغی على ما عداه، ولم يعط الفرصة للعديد من المفكرين لبحث موضوع الأمن من منطلق قومي. وقد عزز هذا التوجه نظرة بعض الباحثين والسياسيين إلى الشعوب العربية بوصفهم مجموعة من الأمم، وليس كأمة واحدة. ويظهر هذا واضحا في استخدام مصطلحات، مثل: (الأمة السورية)، و (الأمة المصرية)، و (الأمة التونسية)… الخ.

– الأمن القومي كمطلب قومی

يركز هذا الاتجاه على الفكرة القومية، رغم غياب الدولة القومية من جهة، ووجود الدولة العربية المستقلة وما يسودها من تناقضات، من جهة أخرى، فالأمن القومي يتمثل، وفقا لأنصار هذا الاتجاه، في قدرة الأمة العربية من خلال نظامها السياسي الواحد – المفترض – على حماية الكيان الذاتي العربي والقيم العربية التاريخية، المادية والمعنوية، من خلال منظومة من الوسائل الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وحمايتها من خطر التهديد المباشر، أو غير المباشر، خارج الحدود، أي دوليا، أو داخل الحدود، بدءا بالتخلف، وحالات التبعية، وانتهاء بعدم استقرار النظم.

وبهذا المعنى، يصبح الأمن القومي تعبيرا عن ثلاثة مطالب لابد للأمة العربية من تحقيقها:

– المطلب الأول، هو فكرة الضرورة، التي تعني حق الدفاع عن النفس، وما يرتبط به من قدرة عسكرية عالية.

– والمطلب الثاني، هو وحدة الإرادة في مواجهة وحدة الخطر، بما يعني التعاون والتقارب بين البلاد العربية.

– أما المطلب الثالث، فهو حق التنمية والبناء، انطلاقا من حقيقة التكامل بين مختلف أجزاء المنطقة العربية. وبتفاعل هذه المطالب الثلاثة وإحالتها إلى متغيرات إجرائية تكون أمام أوجه القوة والضعف في الجسد العربي.

وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى الأمن العربي المفقود، حيث أن المنطلق هو الوجود القومي رغم انقسام الأمة بين اثنتين وعشرين (22) دولة. كما أن المخاطر، سواء أكانت داخلية أو خارجية، تهدد هذا الوجود برمته، وهذا يعني أن قضية الأمن العربي تتطلب وضع برنامج تكون غايته ضمان الأمن من خلال الدفاع عن حدود المنطقة العربية ( هي حدود الأقطار العربية المعروفة، بما في ذلك الأراضي العربية المحتلة) ، ومنع احتلال أراضيها، وبناء اقتصاد قوي، يحمى وجود الأمة، ويؤمن حاجات أبنائها.

–  الامن القومي كمرادف للامن الإقليمي

يركز هذا الاتجاه على فكرة الأمن المشترك للدول العربية، بحيث يصير الأمن القومي مرادفا للأمن الإقليمي، وهذا الاتجاه هو الأكثر شيوعا بين المهتمين بقضايا الأمن القومي العربي، حيث يقول أنصار هذا الرأي: لقد حتمت المصالح المشتركة، والأصالة الحضارية، ووحدة العقيدة واللغة والمصير على الأمة العربية جميعا – شعوبا وحكومات – أن تتعاون وتتازر لدفع الأطماع الخارجية، ومواجهة التكتلات الدولية، وبالتالي، أصبح أمن الدول العربية مجتمعة هو في حد ذاته الأمن المقيم لكل واحدة منها على حدة .

وهناك تناول آخر للأمن العربي، حيث ينطبق عليه مفهوم الأمن الإقليمي، فالمفهوم هنا يشمل أكثر من دولة واحدة في منطقة جغرافية معينة، تربطها روابط وصلات معينة. وفي معناه العام، ينصرف الأمن العربي إلى تلك الحالة من الاستقرار الذي يشمل المنطقة العربية كلها، بعيداً عن أي نوع من أنواع التهديد، سواء من الداخل أو من الخارج. ونجد هذا المعنى في كتابات أمين هويدي، فهو ينطلق في تحديده لكيفية تحقيق الأمن القومي العربي من تعريفه للأمن القومى عمومالك”، حيث يرى أنه ما تقوم به الدولة، أو مجموعة الدول التي يضمها نظام جماعي واحد، من إجراءات في حدود طاقتها للحفاظ على كيانها ومصالحها، في الحاضر والمستقبل، مع مراعاة المتغيرات المحلية والدولية، كما يرى أن الأمن الجماعي ضرورة حتمية لتحقيق الأمن العربي لما له من فوائد عديدة، على أن يتم الالتزام بقواعد وأصول العمل الجماعي.

– كما أن ثمة اختلافاً بين مفهوم الأمن القومي، كما عرفه الفكر الغربي، ومفهوم الأمن القومى العربى، وفقا لخصائص الواقع العربي. ومن خلال تحديد مستويات الأمن العربي، يرى بعض الباحثين العرب أنه تأمين المناعة الإقليمية، والاستقرار السياسي، والتكامل الاقتصادي بين أجزاء الوطن العربي، وتعزيز اليات وقواعد العمل المشترك، بما فيها القدرة الدفاعية لوقف الاختراقات الخارجية للجسم العربي، وتصلب العلاقة التي تبدو هلامية في الوقت الراهن بين وحدات النظام العربي، وما يتطلبه ذلك من اعتماد الحوار والتفاوض لإنهاء الخلافات والصراعات الدائرق بين هذه الوحدات .

الهوامش :

  • جمعه بن على بن جمعه٫ الامن العربي في  عالم متغير٫2010ص 66.

Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *