طـبيعة العــنف نظرة تحليلية استقصائية

طـبيعة العــنف نظرة تحليلية استقصائية

كلمة العنف من المفردات التي يكثر تداولها في زماننا، وهي ليست جديدة في اللغة إجمالاً أو على مستوى الحياة الاجتماعية، ولكن اللافت للنظر هو انتشارها عملياً بين الناس في داخل المجتمع الواحد، حيث يلجأون إلى استخدام القوة بوسائلها المتنوعة التي تتراوح بين الكلمات والألفاظ النابية في صراخ وشتائم مقذعة، وبين استعمال اليدين والعصي أو قطع الحديد أو الحجارة وربما الأسلحة البيضاء وغيرها، وفي بعض الأحيان يصل الأمر إلى استخدام سلاح ناري. وهذه ظاهرة منتشرة في المجتمعات الحديثة بشكل عام وليس في البلاد المتخلفة فقط. ولا ينكر أحد أن العنف موجود في حياة البشر منذ الأزل، وهو بذلك ليس جديداً، ولكن الجديد هو أن يصبح الوسيلة الأولى للتعامل مع الآخرين من أبناء المجتمع، أو لحل المشاكل معهم أو للوصول إلى الحقوق، وأن تغيب الوسائل الأكثر فاعلية والأقرب إلى العقل وإلى المنطق السليم والفطرة البشرية الهادئة التي تملك القدرة على إدارة شؤون الحياة بما يليق بالإنسان وبوعيه وبكونه المخلوق القادر على الحوار وعلى ضبط الأمور ووضعها في سياقها المناسب. والأنكى من ذلك أن ينتشر العنف على مستوى الجماعات البشرية.

أولاً: مفهوم العنف

أـ تحديد ملامح العنف: قبل أن نشرع في دراسة العنف وأبعاده ودوره في حياة الإنسان لا بد من التعرف على معناه أو مفهومه في اللغة وفي الحياة الاجتماعية، لأن هذا التعرف يساعد على تحديد موضوع البحث وجلاء جوانبه المختلفة بلا لبس أو غموض.

1ـ العنف في اللغة العربية: جاء في القاموس المحيط (ص 1085): (العنف ضد الرفق، عَنُفَ ككرُم ـ عليه وبه ـ … العنيف: من لا رفق له بركوب الخيل، والشديد من القول والسّير. وعنّفه: لامه بشدة ). وفي مختار الصحاح: (العنف ضد الرفق، تقول منه: عنُف عليه ـ بالضم ـ عُنفاً، وعَـنُف به أيضاً، والتعنيف: التعيير واللوم). أما المعجم الوسيط فقد جاء فيه (ج2 ص631): (عـنٌف به وعليه عنفاً وعنافة: أخذه بشدة وقسوة، لامَه وعيّره).

ومن هذا العرض نلاحظ أن هناك معنى واحداً في المعاجم الثلاثة خلاصته أن العنف ضد الرفق وأنه يعني الشدة والقسوة، وهذه الصفات لها ارتباطها الوثيق بالقوة، وكذلك تشير المعاجم إلى أن من

العنف (اللوم والتعيير، وهما ما يسمى التعنيف الذي يكون عادة بالكلام). ولهذا فالعنف يرتبط بالإنسان (العنيف)، وهو ما يصدر عن ذلك الإنسان من تصرفات ابتداء من لسانه (أي بالكلمات العنيفة) وامتداداً إلى بقية الجوارح.

أما في اللغة الإنكليزية فالأمر لا يختلف كثيراً عن اللغة العربية في تحديد معنى العنف، فقد جاء في أحد القواميس ما يلي: [ (violent) = عنيف: موسوم بقوة مادية عظيمة physical forceمثل العاصفة العنيفة.]

The concise Oxford Dict. P: 1430.

وجاء في قاموس آخر : (عنيف: يستعمل، أو يُظهر، أو تصحبه قوة عظيمة مثل: هجوم الرياح العنيفة violent wind attack )

Dict.page1117 The Advanced learner’s

2 ـ العنف في المصطلح الاجتماعي:

تعودنا أن نسمع قول بعضهم: (هذا عنف وحشيّ، أو عنفٌ قاسٍ أو عنف شديد…إلخ). وهذا الوصف ينطلق من مواقف نفسية توحي بالانتقاد للعنف وبالدعوة إلى تجنبه، كما أنَّ فيه إيحاءً بوضع القوة في غير محلها الصحيح، أي حيث لا يلزم استخدامها. وكذلك نقول في أحاديثنا العادية: (فلان قوي أو فلان شديد أو شجاع، أو فلان عنيف). فصفات القوة والشدة (أي الصبر) والشجاعة لا توحي بانتقادنا لصاحبها، وإنما فيها شيء من المدح، بينما صفة (العنف) تختلف عن ذلك بأن فيها إيحاء بالخروج عن حدود الشيء المعقول، وكأن (العنف) مقترن بشيء من الغلظة أو تجاوز الحدود العادية أو المقبولة في التعامل مع الآخرين. وهنا نلاحظ شيئين، أولهما: أن هذا القول يبيّن لنا ملامح (تعريف العنف)، والشيء الثاني: أنه مجال معياري (أو قيمي) قابل للحكم عليه أو لوزنه (بميزان القيم الاجتماعية) المتداولة، شأنه في ذلك شأن تعامل الناس مع بعضهم بصورة إجمالية، فهو يخضع للميزان القيمي ذاته سواء في الأحوال العادية أو الاستثنائية. ولذلك تعوّدنا أن نسمع توصيفات محددة يتداولها الناس عن بعضهم كقولهم: (فلان هادئ أو فلان عصبي أو حكيم أو ناضج…إلخ)، في قائمة طويلة من هذه الصفات الانطباعية التي يمكن اعتبارها ناتجة عن تجارب التعامل بين الناس.

 ـ تعريف العنف: يهمنا أن نحاول تحديد صفات الإنسان العنيف كما يراها الناس، ومن هذه الصفات العملية نستطيع استخلاص وصف أو تعريف للعنف بصورة مطابقة لما في الحياة. وهنا نقف عند سؤال لا بد من طرحه وهو: هل العنف العملي (أو المادي) هو الذي يسبق في الوجود، أم فكرة العنف هيالسابقة؟ وجواباً على ذلك نقول باختصار: (إن وجود العنف) المادي بشكل عام يسبق (فكرة العنف) أو تعريفه بمفردات تدل عليه، لأن التعريف (وصف)، والشيء لا يمكن أن نستطيع وصفه لو لم يكن موجوداً، أو لم نكن قد عرفناه؛ فمعرفة الشيء تسبق تعريفه، ولهذا (فوجود) العنف سابق على (تعريفه)؛ بمعنى أن التعريف انتقال من المحسوس إلى التجريد أو من الموصوف إلى الصفات العامة، وهذا هو أساس الفكرة المتكونة. وهذه الحقيقة تجيز لنا القول بأن العنف بصفته (فكرة) عند الإنسان لا يمكن أن تسبق وجوده المادي المحسوس. وبناء على ذلك كان قولنا بأنه من الأفضل أن نورد وصفاً للإنسان العنيف لكي نصل منه إلى تعريف العنف بشكل واقعي صادق. وبالكيفية ذاتها يمكننا أن نوسع الدائرة لتشمل الكائنات كلها(التي يظهر فيها العنف)، سواء كانت من الأحياء أو من الطبيعة 

غير الحية، لأن العنف صفة فطرية في الكون، ولكن يهمنا الإنسان بصفته فرداً أو جماعة، فمن صفات الإنسان العنيف أنه ينفعل بسرعة كرد فعل على موقف لا يعجبه، ويبدو الانفعال على وجهه وفي صوته المرتفع وفي حركاته التي تدل على التوتر، كما أنه من الناحية الفسيولوجية تزداد إفرازات غدده خصوصاً الغدة الكظرية (فوق الكلية) التي تفرز (الأدرينالين)، وتزداد دقات قلبه وسرعة تنفسه. والأهم من ذلك أنه يمكن أن يلجأ إلى استخدام جوارحه (يديه مثلاً) في ضرب خصمه أو في تحطيم شيء ما. وفي مثل هذا الموقف يصفه الناس بأنه (إنسان عصبي أو أهوج أو مجنون أو عنيف أو متسرّع…إلخ)، وهذه الألفاظ كلها ذات دلالة، ولا يمكن أن نقول بأنها خاطئة، ولكن يجوز أن نقول بأنها ليست شاملة، بل كل منها يشير إلى ناحية أو صفة يتخيل (صاحب القول) أنها هي الأهم أو الأبرز في هذا الإنسان المنفعل، وإجمالاً فكلها ألفاظ تشترك في ناحيتين:

الأولى: أنها ذات دلالة على الناحية النفسية عند الإنسان، والناحية الثانية: أن كل لفظ منها فيه قدر من الدلالة على ناحية سلبية، فهو أقرب إلى الذم منه إلى المدح. ونستطيع الآن أن نقف على تعريف للعنف بعد أن استعرضنا طرفاً من الحقائق المادية العملية المتصلة بوجوده في حياة الأفراد والجماعات.

Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *